يحفلتاريخ الحركة الصهيونية بعشرات جرائم الإرهاب والقتل السياسي التي وقعت داخل صفوف وبين المنظمات والأجنحة المختلفة في الحركة الصهيونية ذاتها ومجتمعها الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وخاصة في فترة ما قبل قيام دولة إسرائيل، وتشير الوثائق والأدبيات السياسية الإسرائيلية الرسمية إلى العديد من عمليات القتل وحوادث الاغتيال السياسي التي وقعت في إطار الصراعات والخصومات بين المنظمات والأجنحة السياسية والعسكرية الرئيسة في الحركة الصهيونية (منظمات "الهاغاناه" و"إيتسل" و"ليحي") خلال العقود الثلاثة التي مهدت لقيام إسرائيل في العام 1948. وتذكر هذه الوثائق والأدبيات خمس حوادث اغتيال سياسي بارزة في تاريخ الحركة الصهيونية ودولتها (إسرائيل) اثنتان منها وقعتا قبل قيام إسرائيل (قتل يعقوب ديه هان في العام 1924، وقتل حاييم أرلوزوروف في العام 1933) وثلاثة اغتيالات بعد قيام الدولة (اغتيال يسرائيل كستنر في العام 1957، اغتيال الناشط اليساري في حركة "السلام الآن" إميل غرينتسفايغ في العام 1983، واغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين في العام 1995)، بالإضافة إلى العديد من عمليات الاغتيال التي طالت مسؤولين سياسيين وعسكريين في حكومة الانتداب البريطاني حتى العام 1948، وكذلك حادث اغتيال موفد الأمم المتحدة إلى فلسطين الكونت فولك برنادوت (سويدي) في 17 أيلول 1948 على يد منظمة "شتيرن" الصهيونية وذلك بسبب قيامه بإعداد تقرير بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة يخالف رغبة الحركة الصهيونية وإسرائيل.
يتضمن التقرير التالي عرضاً لأبرز حوادث ومحاولات الاغتيال السياسي وخلفياتها منذ بداية تنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني وحتى العام 1948.
* محاولة اغتيال يوسيف ليشنسكي (1917)
ولد يوسيف ليشنسكي في روسيا عام 1886 وهاجر إلى البلاد وهو في السادسة من عمره. امتدت فترة نشاطه من العام 1910 وحتى 1917. وكان يوسيف قد وصل مع أبيه إلى "المطلة" ثم فقد والده في ظروف غامضة فنشأ وتربى عند عمته في "المطلة" حيث تلقّى هناك تعليمه في المدرسة المحلية. تخصص يوسيف في لغة وأنماط حياة الجيران العرب وامتلك خبرة عالية في ركوب الخيل والرماية، وعمل في الحراسة. خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1917) انتقل مع عائلته إلى مستوطنات جنوبي البلاد، حيث أقام هناك جمعية حراسة مستقلة أسماها "همغين". أثناء مكوثه في مزرعة "روحماه" تعرف على أبشلوم فاينبرغ وأقام صلات مع التنظيم الإرهابي السري "نيلي" الذي تزعمه أهارون أهارونسون. خلال رحلتهما المشتركة إلى مصر في مهمة تجسس لصالح البريطانيين قُتِلَ أبشلوم (قبره موجود قرب رفح). بعد عودة يوسيف ليشنسكي من رحلته أخذت السلطات التركية، التي كشفت أنشطة منظمة "نيلي"، تتعقبه بهدف اعتقاله، ونجحت في نهاية المطاف في إلقاء القبض عليه، مع باقي المجموعة التي عرفت بـ "سجناء دمشق". اقتيد يوسيف إلى السجن وبعد عمليات تحقيق وتعذيب خضع لها تم إعدامه شنقاً مع نعمان بلقيند، في ساحة مدينة دمشق.
قصة هرب يوسيف والقبض عليه مرتبطة بمحاولات لتصفيته من جانب أعضاء منظمة "هشومير" (العمالية الصهيونية). ففي خريف العام 1917 اعتقلت "هشومير" ليشنسكي واحتجزته لفترة من الوقت حاول خلالها أعضاء منظمة "هشومير" إعدامه على مقربة من المطلة. في شهر تشرين الأول 1917 أُمِرَ عضوا "هشومير" مئير كوزلوفسكي وشبتاي إيرليخ بقتل يوسيف ليشنسكي، وقاما بالفعل بإطلاق النار عليه، لكنها لم تكن طلقة الموت. فيما اتهم المذكوران بأنهما لم يمتلكا الجرأة الكافية لقتل ليشنسكي، وتقرر في اجتماع داخلي لمنظمة "هشومير" تقديمهما لمحاكمة داخلية. وقد شكل هذا الحدث أول محاولة اغتيال سياسي في تاريخ مجتمع الاستيطان اليهودي (الييشوف) على أرضية الخصومة بين منظمة "هشومير" والمنظمة الانفصالية "نيلي".
* محاولة اغتيال رونالد ستورس (1921)
بعد الأحداث التي وقعت في العام 1921، ألقى يسرائيل شوحط، من زعماء "هشومير" و"الكيبوتس السري"، على عاتق ثلاثة من رجاله هم يوسيف حريط، طوفيا هوروفيتس وموشيه إيليوفيتس، تدبير عملية اغتيال لرونالد ستورس، بعدما اعتبر الأخير مسؤولاً عن سفك الدماء في العام 1920. وقد تعقب الثلاثة ستورس طوال أربعة أشهر، محاولين معرفة مكان سكنه، وقام الثلاثة بالإعداد والتخطيط لعملية الاغتيال بكل تفاصيلها. وكان من المفروض أن يكون منفذو الاغتيال فعلياً أشخاصًا آخرين. غير أن اسحق بن تسفي (من زعماء منظمة "الهاغاناه" العسكرية) استدعى المكلفين الثلاثة بعملية الاغتيال إلى مقره في القدس وأبلغهم أنه تقرر عدم تنفيذ الخطة المعدة بهذا الشأن.
* اغتيال توفيق بيه نائب قائد شرطة يافا (1923)
في العام 1921 اندلعت اضطرابات في يافا في أعقاب شجار وقع بين متظاهري الأول من أيار (عيد العمال) ومتظاهري حركات تنتمي إلى "حركة العمل" من جهة، ومتظاهرين شيوعيين يهوداً وعرباً من جهة أخرى. في أعقاب هذه الاضطرابات هوجم "بيت المهاجرين" المجاور للمستشفى الفرنساوي في يافا و"بيت يتسكار" الذي قتل فيه الكاتب يوسيف حاييم برينر ويهودا يتسكار وتسفي شاتس ويوسيف لويدور وتسفي غوغينغ برغنرين. على أثر ذلك قام يسرائيل شوحط، زعيم "الكيبوتس"، وإلياهو غولومب وزليغ شترومان، من أعضاء منظمة "الهاغاناه"، بالتحقيق في الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاضطرابات وتوصلوا إلى استنتاج بان "توفيق بيه" (نائب قائد شرطة يافا) مشتبه في حادث قتل برينر، أو على الأقل كان باستطاعته منع قتله. وقررت مُنية شوحط وجوب قتل توفيق بيه. شاؤول أبيغور قال إن قائد "الهاغاناه" يوسيف هيخت هو الذي أمر باغتيال توفيق بيه. هيخت نفسه نفى إدعاء أعضاء "هشومير" بأنه هو الذي اقترح تصفية ضابط الشرطة العربي.
وادعى (دافيد) بن غوريون و(الياهو) غولومب في إفادتهما في لجنة التحقيق أن اغتيال توفيق بيه تم دون التشاور معهما ودون إذن من مركز الهاغاناه. أعضاء "هشومير" كرروا إدعاءهم بأن حادث الاغتيال تم بعلم قادة "الهاغاناه" وموافقتهم وحتى بمساعدة كل من الياهو غولومب ويوسيف هيخت. وكانت مُنية شوحط قد كلفت اثنين من أعضاء "هشومير" وهما طوفيا هوروفيتس ويعقوب أبرامزون بمراقبة وتعقب توفيق بيه، فيما كلف يرحمئيل لوكاتشر (لوكا) وبنيامين بيخمن، بتنفيذ عملية الاغتيال. قبل يوم واحد من تنفيذ الاغتيال ذهب الاثنان إلى يوسيف هيخت وأخبراه عن نيتهما، فلم يبد من جهته أي احتجاج أو اعتراض. وبالفعل قام لوكاتشر بإطلاق الرصاص على توفيق بيه قرب متجر لبيع الخمور يعود لمختار حي نافيه شالوم. أثار حادث الاغتيال اضطرابات في يافا غير أن الشرطة البريطانية قامت بإخمادها.
* اغتيال يعقوب يسرائيل ديه هان (حزيران 1924)
عمل د. يعقوب يسرائيل ديه هان بمثابة "وزير خارجية" الطائفة اليهودية الحريدية (الأرثوذكسية) المتعصبة في القدس. وكان أعضاء الطائفة ينتمون إلى إطارين تنظيميين "مجلس المدينة الاشكنازي" والفرع المحلي لحركة "أغودات يسرائيل". كان ديه هان شخصية مثيرة للجدل، وهو صهيوني قومي سابق تحول إلى ألد خصوم زعماء حركة "العمل" الصهيونية. في مطلع القرن العشرين استطاع ديه هان، بكونه كاتباً وشاعراً وصحافياً (حاصل أيضاً على شهادة الدكتوراه في الحقوق) وباحثاً وسياسياً أن يفتح (بعد "توبته الدينية") أمام المتدينين الحريديم في القدس أبواب الملوك والشخصيات الرفيعة التي ولجها حتى ذلك الوقت كبار قادة وزعماء الصهيونية فقط. وقد رأت فيه زعامة "الييشوف" خائناً خاصة بعد لقاءات منفصلة عقدها مع ملك الأردن (الملك عبد الله) ولقاءات دبلوماسية في لندن. وكان ديه هان، الذي ولد في بلدة هولندية صغيرة، قد أنهى دراسته في "هارلم" وواصل دراسة الحقوق في الجامعة وفي العام 1903 صار واحداً من زعماء حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي. وفي العام 1912 توجه إلى روسيا حيث حقق في وضع السجناء في الدولة، وفي العام 1913، الذي بدأ فيه رحلته الثانية، اتجه إلى "التوبة إلى الدين اليهودي".